مجلة لقمان لشوقي عبد الامير: نماذج من صناعة الكتابة العربية أفلتت من المصادرة

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
21/09/2008 06:00 AM
GMT



من يدري.. لو قيّض للنثر الذي وضعه العرب في ما يُسمى، على نحو من الاعتباطية الساذجة، "العصر الجاهلي"، أن يسلم من الاندثار، لكان بمقدورنا أن نعيد قراءة المفاهيم الفكرية والاجتماعية والانسانية لتلك الحقبة بشكل مغاير. والأرجح بمنحى مختلف قد يبدو انقلابياً، الى حد كبير، يستهدف إعادة النظر في منظومة من المصطلحات والتصنيفات التي باتت تستحوذ على شيء كثير من "قداسة" المؤسسة اللغوية. من بينها، على وجه التحديد، تلك القناعة الراسخة التي تعتبر بأن الشعر وليس النثر هو "ديوان العرب". قد يتعذر علينا أن نستعيد هذه المقولة بثقلها التاريخي، إذا صح التعبير، من أرشيف الذاكرة العربية لنصفّيها مما علق بها من أدران الزمن الغابر وفضلاته ومعتقداته. ومع ذلك، لو توافر لنا، على سبيل الاحتمال، نتاج واسع من النثر الذي فاض به الذهن العربي، وقتئذ، لاستطعنا على الأغلب أن ننزع عن هذه التصنيفات القشرة السميكة من التسليم الايديولوجي بثبات أنماط من "الحقائق" قد لا تبدو كذلك، على الاطلاق. ولربما لو تحققت هذه المشيئة، على استحالتها، بسياق تاريخي متماسك وموثق، لاختلطت الأوراق رأساً على عقب. ولأصبح النثر ديوان العرب من دون منازع. هذا من قبيل التصوّر المنطقي، على الأرجح، الذي يتردد أصحابه في تقبّل الحقائق كما تصل إلينا ممهورة بتوقيع المعتقدات الشعبية والرسمية والإذعان الكامل لأحكام لا تخلو من إرهاب الأزمنة والأمكنة وسطوة الإيديولوجيا.
نماذج مبعثرة
حسناً فعل شوقي عبدالأمير في ما ذهب إليه في كتابه الهام "مجلة لقمان" من البحث المضني عن نصوص ونماذج في النثر تعزى الى مرحلة ما قبل الاسلام، جمع منها ما اهتدى إليه من أمهات الكتب ومراجع التاريخ والأدب. محاولة جادة واستثنائية على الأرجح لإدراج هذه البعثرة النادرة مما لم يقوَ عليه الزمن القاسي المتعسف، في كتاب واحد موحّد. يوفر لنا عبدالأمير بذلك، فرصة ثمينة جداً قل نظيرها، للاطلاع على هذه النتف القليلة التي تسرّبت إلينا بقدرة قادر من بين ثقوب التاريخ السوداء من دون أن يعترضها معترض أو يقطع رأسها جلاد. يشتمل الكتاب على عشرات من هذه النماذج النثرية وأقل بكثير من مثيلاتها التي تعزى الى صدر الاسلام. الأولى أكثر أهمية من الثانية وأكثر دلالة بما لا يقاس، نظراً الى ندرتها التي تبعث على الذهول والألم الكبير من ضياع الإرث النثري للعرب قبل الاسلام. الثانية أقل أهمية من الأولى نتيجة لجلاء المعالم الفكرية والسياسية والدينية التي طبعت المراحل المتعاقبة التي ساد فيها الاسلام السياسي والديني والاجتماعي. والأرجح أنها كذلك على خلفية القطيعة الملتبسة التي عومل بها الإرث النثري الكبير الذي شكل، بطبيعته، تواصلاً إنسانياً وفكرياً مبدعاً وحقيقياً بين الناس في تلك الحقبة الجاهلية المهملة في كتب التاريخ.
على هذا الأساس، تنطوي محاولة عبدالأمير في هذا الكتاب، على شيء كثير من الجهد الأكاديمي والتنقّل الصعب بين كتب التاريخ ومصادره المتعددة. غير أنها لا تقتصر على هذه الميزة فقط. تبدو أكثر ميلاً الى أن تدلي بدلوها في الملعب الصعب، حيث تتجلى الخطورة في أكثر صورها تعقيداً واستعادة لحقائق بأشكالها الأولى. قد تصبح هذه المحاولة مغامرة محفوفة بالاصطدام المباشر بمنظومة واسعة من المحظورات التي أرست مرتكزاتها "التاريخية" المؤسسة "الرسمية" التي تنصّب نفسها حارساً إبدياً على خزائن اللغة وأرشيف الذاكرة المترهل في مكانه منذ أقدم الأزمنة. الأغلب أن عبدالأمير لا يتنكر لتداعيات هذه اللعبة الخطرة ولا يتنصل من شرف الخوض في متاهاتها. يكتب قائلاً في مقدمة الكتاب: "إذا كان الشعر الجاهلي مرآة الأنا العربية الغنائية فإن النثر الجاهلي هو مرآة المجتمع العربي وحكمته. من هنا تأتي أهمية تكامل الصورة بين الشعر والنثر الجاهلي لكي نفهم بشكل أكبر وأوضح صورة المجتمع العربي في أهم مراحل تكوينه، ونكتشف أسراراً وخبايا وتجليات للغة العربية في أجمل مراحل سطوعها وانتشارها في الجزيرة والعالم القديم".
المكونات الأولى
لعلّ ما يشير إليه عبدالأمير في هذا التصوّر، هو أن ثمة انتقاصاً فادحاً وفاضحاً تعرّضت له الكتابة النثرية بدءاً من صدر الإسلام بالتحديد، من خلال ما جرى التوافق عليه بأن الانطلاقة الحقيقية لصناعة النثر العربية إنما استُهلت في أعقاب الزوال القطعي لما يسمى العصر الجاهلي. من هنا تلميحه الى افتقارنا، حتى هذه اللحظة، الى المكونات الأصلية، على الأقل بدلالاتها الابتكارية الأولى، لهذه الصناعة المعقدة التي يبدو أنها توغلت عميقاً في بنية اللغة العربية قبل الاسلام. إن النماذج النثرية على نقيض مثيلاتها الجاهلية التي استقطبت من زاد عنها وحفظها لنا في أرشيف الذاكرة التاريخية، ليست وليدة صدر الإسلام ولا من بنات أفكاره فحسب. إنها تتحرك، على الأرجح، في فضاء فسيح يمتدّ قروناً عدة قبل الإسلام ويتغلغل عميقاً جداً في ظلال الكلام وملكة التعبير والكيفية البعيدة التي يتدبّر بها العقل استخدام المفردات. والأغلب، في هذا السياق الغامض من الفجوات التاريخية التي لا تزال على ما هي عليه، أن صناعة النثر في صدر الإسلام بدت مفتقرة، بشكل أو بآخر، الى تلك اللحظة من صفاء الكتابة وعفويتها وأصالتها كذلك التي كانت تخيّم على النثر بصيغته الجاهلية. قد يعزى ذلك الى المستجدات الثقافية والعمرانية والسياسية التي طرأت على الاجتماع العربي في أشكاله الإسلامية. لذلك، من المرجّح الاعتقاد بأن النثر الذي ازدهر في صدر الإسلام تعبيراً عن التمرّس في الحياة المدنية والانفتاح على تعقيدات الحضارة الجديدة، كان بدأ يشق طريقه في دروب أخرى تفترق عن مثيلاتها الجاهلية من حيث الأفكار الجديدة التي طرأت على التجاذب الاجتماعي السياسي، من دون أن تتنكر على الاطلاق لبداياتها الغريزية في التعامل مع اللغة. والمقصود بهذه الأخيرة الحالة اللغوية الكامنة في بنية النثر الجاهلي. ومن المرجح، كذلك، أن صناعة النثر، بنسخته الجاهلية، ظلت تحفر بصماتها عميقة في نثر صدر الإسلام، على مستوى الاستخدام الأمثل للمفردة والآليات الذهنية التي تستدرج هذه المفردات لصناعة نص نثري متألق ومرهف ومتقن الى حد كبير.
ومع ذلك، نكاد لا نعثر في المصادر التاريخية إلا على نتف مشرذمة ومشظاة من النثر الجاهلي، أورد جزءاً منها عبدالأمير في كتابه. كيف تبخّر هذا الإرث الذي كان بمقدوره، ربما، أن يتبوأ سدة ديوان العرب وليس الشعر؟ ولماذا حُكم عليه بالإعدام؟ إذا جاز التعبير، وهل يعقل أن تقدم أمة كالعرب، على سبيل المثال، تعتدّ بكلامها وتحسب له ألف حساب وتزينه بميزان من ذهب، على تجاهل إرث لغوي كهذا إن لم يكن طرده من البوابة الخلفية للتاريخ؟ الإجابة عن هذا التساؤلات كمن يبحث عن إبرة في كومة قش. ومع ذلك فإنها في غياب إجابات مبرّرة عنها، يتحوّل النثر الجاهلي الحاضر الأكبر في ظلّ الحصار الذي أُحيط به، والإهمال التاريخي المتعمّد الذي حلّ به، وصولاً الى محاولة نفيه من الذاكرة العربية القديمة.
نقاش مؤجل
يسعى عبدالأمير في كتابه الى إلقاء حجر صغير في مستنقع كبير. الى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من القلة القليلة من النماذج النثرية التي تمكنت من الإفلات من قبضة "اللغة الرسمية" فنفدت بجلدها من حكم المقصلة. ولعله يشعل بذلك جذوة نقاش مؤجل منذ مئات السنين حول الطبيعة الإنسانية الفكرية المتقدمة التي أحالت هذا النثر عبقرية متميّزة، والأرجح متفردة، في تاريخ صناعة الكتابة العربية منذ أقدم الأزمنة. ولعله بذلك أيضاً أن يستثير نفراً من نخبة البحاثة في اللسان العربي والأدب العربي القديم لكشف الغطاء عن هذه القضية الشائكة لفك ألغازها وإلقاء أضواء ساطعة على رموزها المطموسة. ثمة في النماذج التي يوردها عبدالأمير ما يوحي بأن العلاقة بين العرب القدماء واللغة كانت أكثر تعقيداً وتطوراً من ظروفهم الاجتماعية السياسية كما يجري تداولها في المصادر الكلاسيكية. تظهر هذه النصوص بأن الآلية الذهنية التي كان يصنع العربي بها مقولته النثرية لم تكن وليدة إحساسه الفطري بقدرة اللغة على ابتكار الوجود والأشياء فحسب، بل بدت أكثر اقتراباً من ماهية الكينونة الإنسانية. يُقصد بذلك حالة الانسجام المدهش بين اللغة من جهة وطبائع الأشياء من جهة أخرى. اللغة، على هذا الأساس، لا توظف فقط لأغراض التعبير عن الأفكار والأحاسيس والمشاعر. بل يجري الارتقاء بها على نحو يجعل منها صنواً للذات الانسانية نفسها. إنها توأمها في هذا الاطار. كلما ارتقى أحدهما ارتقى الآخر بالتزامن معه. ثمة في هذه النماذج ما يدلّ بوضوح على تلك النزعة الغريزية، إذا صحّ التعبير، التي كانت تتلبّس العربي وتحمله على اشتقاق المفردة، المثلى للمعنى الأمثل. بكلمات أبسط: اللفظة المناسبة في المكان المناسب.
قد يخيّل الى بعضهم أن هذه الميزة هي من صفات العربي الذي كان يميل الى الاقتصاد في التعبير ويحجم عن الإطالة وينفر من الثرثرة. كانت هذه فعلاً من طبائع العرب. غير أن وصفاً بهذه البساطة والسطحية ليس كافياً أبداً للحكم، ولو بإيجابية مطلقة، على هذه العلاقة المرهفة بين الذهنية العربية في الجاهلية واللغة. صحيح أن العرب القدامى عرفوا بتطويع المفردة، وترويضها، وتشذيبها، على نحو من الإعجاز النادر، بغية إنزالها في العبارة، بحيث لا يبدو المعنى وكأنه يرتدي من الخارج رداء من الكلمات. ومع ذلك، ثمة في هذه المعادلة الصعبة ما يتجاوز هذا المفهوم، على الأرجح. يبدو، في النصوص التي جمعها عبدالأمير، أن البحث عن المفردة الكاملة تعبيراً عن المعنى الكامل، ليس ولعاً باللغة فحسب وتهيّباً منها وإجلالاً لقيمتها في حياة الصحراء الموحشة، بل استقصاء حقيقياً لمضمونها الإنساني من أجل التمثّل به، وفي الوقت عينه، من أجل أن يسكب العربي ظله الإنساني في جوف اللغة.
بدت اللغة في نصوص الكتاب محاولة وجودية، على الأغلب، لا يبذلها عرب الجاهلية في الوقت الضائع، بل تماشياً مع زمانهم ومكانهم من أجل أن يبتدعوا لغة هي أقرب ما تكون الى ذاتهم الحقيقية. إنها اختراعهم الأهم في تاريخهم القديم. ووسيلتهم الأهم لقراءة العالم من حولهم ولإنعاش أفئدتهم المكتوية بلهيب الصحراء ورمالها المكتئبة بالملح الثقيل. ولأن الأمر كذلك، على الأغلب، أصبحت اللغة، كما يظهر في النصوص، هي وحدها من تملأ فراغ الصحراء. إنها الصحراء عينها التي تتمرد على نفسها بالمفردة والكلمة والتعبير باللغة. إنها الأداة الوحيدة التي بدت متوافرة لاكتشاف العالم وإعادة تشكيله.
الآتية نماذج أوردها شوقي عبدالأمير حول صناعة النثر قبل الإسلام..
وصية زهير بن جناب الكلبي
وأوصى زهير بن جناب الكلبي بنيه فقال:
"يا بنيّ: قد كبرت سنّي، وبلغت حرساً من دهري، فإحكمتني التجارب، والأمور تجربة واختبار، فاحفظوا عني ما أقول وعوه، إياكم والخَوَر عند المصائب، والتواكل عند النوائب، فإن ذلك داعية للغم، وشماته للعدو، وسوء ظن بالرب، وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترّين، ولها آمنين، ومنها ساخرين، فإنه ما سخِر قوم قط إلا ابتلوا، ولكن توقعوها، فإنما الإنسان في الدنيا غرَض تعاوره الرماة، فمقصّر دونه ومجاوز لموضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لا بد أنه مصيبه".
(أمالي السيد المرتضى 1173)